البركة في عشرذي الحجة
الحمد لله ذِي الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملِك العلاّم، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله سيّد الأنام، اللهمَّ صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبتِ الدهور والأعوام.
وبعد
لقد كتب الله على نفسه الرحمة، ونشر رحمته بين العباد، وجعلها واسعة بفضله حتى وسعت كل شيء، يقول سبحانه: ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ )[الأعراف:156]، ومن رحمتة جل وعلا بنا أن جعل لنا مواسم ونفحات تُضاعف فيها الحسنات وتزداد فيها الدرجات ويستدرك العبد بها ما فات ، فالسعيد من تنبه لها واستفاد منها والشقي من غفل عنها وضيع نفسه.
ومن هذه المواسم المباركة أيام عشر ذي الحجة أفضل أيام الدنيا ،فأيامها أفضل من أيام رمضان وليلي رمضان أفضل من ليالي ذي الحجة.
دلائل فضل هذه الأيام
أولاً: إن الله أقسم بها ولا يقسم ربنا إلا بعظيم من المخلوقات أو الأوقات،قال تعالى: ( وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) [الفجر:2] وهي عشر ذي الحجة كما قال أهل التفسير.
ثانياً: صح فيها حديث ابن عباس رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْء».[أخرجه البخاري ومسلم].
وفي حديث أخر يقول صلى الله عليه وسلم : «ما من عمل أزكي عند الله ولا أعظم أجراً من خيرٍ يعمله في عشر الأضحى، قيل يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْء» [صحيح الترغيب والترهيب «1148»].
ثالثاً: من فضائلها أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء الذي تدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها ولا يساويها سواها.
رابعاً : فيها يوم عرفة ،وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة. وهو يوم مغفرة الذنوب، والتجاوز عنها، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة».
وروى ابن حبان من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ» وفي رواية: «إنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ مَلَائِكَتَهُ, فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي, اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي, قَدْ أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ».
خامساً: ومن فضائلها: أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: «أفضل الأيام يوم النحر» [رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح].، وفي يوم النحر معظم أعمال النسك للحجاج من رمي الجمرة وحلق الرأس وذبح الهدي والطواف والسعي وصلاة العيد وذبح الأضحية .
السلف والعشر
كان سلفنا الصالح يعظمون هذه الأيام ويقدرونها حق قدرها، قال أبو عثمان النهدي كما في لطائف المعارف: "كان السلف ـ يعظّمون ثلاثَ عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم». وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «كان يقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم»، يعني في الفضل، وروي عن الأوزاعي قال: «بلغني أن العمل في يوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بالشهادة».
يا له من موسم يفتح للمتنافسين ويا له من غبن يحق بالقاعدين والمعرضين فاستبقوا الخيرات يا عباد الله وسارعوا إلى مغفرة من الله وجنة عرضها السماوات والأرض وإياكم والتواني وحذار من الدعة والكسل .
يستحب في هذه الأيام
1- الحج:
من أجلِّ الأعمال الصالحة التي تشرع في هذه العشر أداء مناسك الحج الذي أوجبه الله تعالى على كل مسلم قادر تحققت فيه شروط وجوبه،قال صلى الله عليه وسلم : «من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدَته أمُّه» متفق عليه ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «تابِعوا بين الحجِّ والعمرة؛ فإنّهما ينفيان الفقر والذنوبَ كما ينفي الكير خَبثَ الحديدِ والذّهب والفضَّة، وليس للحجّة المبرورةِ ثوابٌ إلاّ الجنّة» [رواه الترمذيّ والنسائي وسنده صحيح ].
2-الصيام :
يستحب الإكثار من الصيام في أيام العشر، ولو صام التسعة الأيام لكان ذلك مشروعاً، لأن الصيام من العمل الصالح، قال صلى الله عليه وسلم : «ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا» [أخرجه البخاري ومسلم]. ويزداد أجر الصيام إذا وقع في هذه الأيام المباركة، قال النوويّ رحمه الله: «فليس في صومِ هذه التسعة ـ يعني تسع ذي الحجّة ـ كراهةٌ شديدة، بل هي مستحبّة استحبابًا شديدًا»[ شرح صحيح مسلم (8/71)].وصوم يوم عرفه يكفر ذنوب سنتين قال صلى الله عليه وسلم :«صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسـنة التي بعده...» [أخرجـه مسلم في: الصيام (1162 ] والمراد بها الصغائر، وسبق بيان مثل هذا في تكفير الخطايا بالوضوء, وذكرنا هناك أنه إن لم تكن صغائر، يُرجى التخفيف من الكبائر، فإن لم يكن رُفعت درجات [شرح مسلم (8/50/ 51)].
3-القران :
القرآن التجارة التي لن تبور ،حاول أن تختمه في هذه العشر ،قال صلى الله عليه وسلم : «لأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آية أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل»[ رواه مسلم ] ،واعلم أخي المسلم انك لن تتقرب إلى الله بمثل كتابه تلاوةً وتدبراً وتحكيماً.
4-الصلاة:
قال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر» [صحيح الجامع (3870)] ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله : «ما عمل ابن آدم شيئا أفضل من الصلاة وصلاح ذات البين وخلق حسن».[ صحيح الجامع (3518).
ولا تنس أخي بناء بيت في الجنة بصلاة اثنتا عشرة ركعة تطوع من غير الفريضة ، وصلاة الضحى ركعتان أو أكثر، و قيام الليل ففي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم ذكر منهم الذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن يقوم من الليل فيقول الله: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد» [الطبراني بإسناد حسن].
المحافظة على النوافل سبب من أسباب محبة الله، ومن نال محبة الله حفظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه، لأنها تكمل النقص وتجبر الكسر وتسد الخلل.
5-الذكر:
الذكر هو أحب الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النجاة في الدنيا والآخرة، وهو سبب الفلاح، به يُذكر العبد عند الله، ويصلي الله وملائكته على الذاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدرجات، وخير من النفقة، به يضاعف الله الأجر، ويغفر الوزر، ويثقل الميزان، يقول تعالى:( لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَامِ) [الحج:28]،روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد»، وكان أبو هريرة وابن عمر ب إذا دخلت عشر ذي الحجة يخرجان إلى السوق يكبران فيكبِّر الناسُ بتكبيرهما.[ رواه البخاري] .
والتكبيرُ عند أهلِ العلم مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع الأوقات في الليل والنهار من مدّة العشر، والمقيّد هو الذي يكون في أدبارِ الصّلواتِ فرضِها ونفلِها على الصّحيح، للرّجال والنّساء.
وأصحُّ ما ورد في وصفِه ـ أي: التكبير المقيّد ـ ما ورَد مِن قولِ عليّ وابن عبّاس ن أنّه مِن صُبح يومِ عرفة إلى العصرِ من آخر أيّام التشريق (الثالث عشر وأمّا للحاجّ فيبدأ التكبيرُ المقيّد عقِب صلاةِ الظهر من يوم النحر. وصحّ عن عمر وابن مسعود ب صيغة: «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
6-الصدقة:
الصدقة، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وتفريح المؤمن وإدخال السرور على نفسه وطرد الهم عنه مما يحبه الله تعالى، فبالصدقة ينال الإنسان البر ويضاعف له الأجر ويظله الله في ظله يوم القيامة، ويُفتح بها أبواب الخير ويغلق بها أبواب الشر، ويفتح فيها باب من أبواب الجنة، ويحبه الله ويحبه الخلق، ويكون بها رحيماً رفيقاً، ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبه، ويتحرر من عبودية الدرهم والدينار، ويحفظه الله في نفسه وماله وولده ودنياه وآخرته.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إلى الله أي الأعمال أحب إلى الله فقال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب العمل إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عن كربه أو تقضى عنه ديناً أو أتطرد عنه جوعاً» [رواه الطبراني وصححه الألباني].
7-الأضحية:
شُرعت الأضاحِيَّ تقرُّبًا إلَى اللهِ بدمائِهَا، وتصدقًاً علَى الفقراءِ بلحمِهَا، والأضحيةُ مِنْ شعائرِ الإسلامِ، وهِيَ رمزٌ للتضحيةِ والفداءِ، وسنةُ أبِي الأنبياءِ إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم، وهِيَ أحبُّ الأعمالِ إلَى اللهِ فِي يومِ العيدِ، فعَنِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا عَمِلَ آدَمِىٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ إلى أَحَبَّ اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهَا لَتَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْساًِ» [رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه ]،و الأضحية سنة مؤكدة يُكره للقادر تركها.
ومن أحكام الأضحية أن تبلغ السن المجزئة شرعاً، فمن الغنم ما أتم سنة كاملة، ومن الضأن ما أتم ستة أشهر، ومن الإبل ما أتم خمس سنين، ومن البقر ما أتم سنتين كاملتين، وتجزئ الإبل والبقر عن سبعة أشخاص، فلو اشترك سبعة في بعير أو بقرة أجزأت عنهم جميعًا.
وللأضحية شروط لا بد من توفرها، منها السلامة من العيوب التي وردت في السنة، وقد بين العلماء هذه العيوب مفصلة، ومن شروطها أن يكون الذبح في الوقت المحدد له، وهو من انتهاء صلاة العيد إلى غروب شمس آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر.
وينبغي للمسلم إذا أراد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره الحجة شيئا؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها قال :«إذا رأيتم هلال ذي فمن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا» [رواه مسلم]. وهذا المنع على القيِّم رب الأسرة، وأما أولاده فإن أمسكوا فحسن حتى يحظوا بالأجر، وإن أخذوا فلا حرج عليهم إن شاء الله.
8-الدعاء:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» [أخرجه الترمذي في الدعوات]
قال ابن عبد البر: «وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره،وفي الحديث أيضًا دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب [التمهيد (6/41)].
9-التوبة والبعد عن المعاصي :
ومما يجب في هذه العشر وفي كل زمان التوبة النصوح والرجوع إلى الله والإقلاع عن المعاصي والذنوب،قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم: 8]، فسارعوا إلى التوبة الصادقة بالكف عن المحرمات والتحلل من المظالم ورد الحقوق والبعد عن الفواحش .
أخي أختي سابق في هذه العشر بكل عمل صالح، وأكثر من الدعاء والاستغفار، وتقرب إلى الله بكل قربة، عسى أن تفوز فوزًا عظيمًا.جعلنا الله من المسارعين في الخيرات والذين هم لها سابقون.
أطفالنا وعشر ذي الحجة
بسم الله الرحمن الرحيم
جاء عن ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَدِّبِ ابْنَكَ فَإِنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ: مَاذَا أَدَّبْتَهُ، وَمَاذَا عَلَّمْتَهُ؟ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ وَطَوَاعِيَتِهِ لَكَ" [1] ، وقال بعض العلماء: "اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَسْأَل الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْل أَنْ يَسْأَل الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ" [2] .
لقد كان دَيدَنُ السلف الصالح في تربيتهم لأولادهم: بناء معتقدهم، وتنمية مهاراتهم وقدراتهم، وتحصينهم ضد الشهوات والشبهات، وتأهيلهم للأعمال الجليلة، والواجبات الشرعية، والسلوكيات الحميدة، وقد وردت النصوص في تأكيد ذلك وبيانه. جاء عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ: "أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ الَّتي حَوْلَ الْمَدِينَةِ "مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ). فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الإِفْطَارِ". [3] .
هكذا كانوا، وهكذا ينبغي لنا أن نكون مع أطفالنا في خير أيام الدنيا؛ عشر ذي الحجة، يقول صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشرة" قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء". [4] .
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن، من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". [5] .
قال الإمام ابن حجر: "الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ سَوَاءٌ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الْجُمُعَةِ فِي غَيْرِهِ لِاجْتِمَاعِ الْفَضْلَيْنِ فِيهِ". [6] .
فهل ترى من النَّجابة في شيء أن نُفوِّتَ أياماً عظيمة كهذه الأيام دون أن ننقش من آثارها على أولادنا، فيشب أحدهم وقد اعتاد القيام بشعائر الإسلام، وتمرَّس على واجباته ومستحباته، ونشأ وقد وقَرَ في قلبه عظمة ما نُعظِّمه، وصارت أعظم الأشياء عنده ما نعتقده، متين المعتقد، سليم القلب، طاهر اللسان، شاباً صالحاً، وعضواً نافعاً في المجتمع؟!
إننا لنُحَقِّقَ هذه الخِصال مع أطفالنا في أعظم الأيام عند الله، ينبغي أن تكون لنا خُطوات أسرية إيمانية مدروسة، نستجلبُ بها رحمة الكريم المنَّان، ونؤكِّد فيها التقارب معهم، ونرسم أهدافاً سامية يسعى الجميع إلى تحقيقها في دنياه لعمارة آخرته وبنائها.
الخطوة الأولى (لفت الانتباه):
وذلك بطباعة حديث الإمام البخاري، وحديث الإمام أحمد، وقول الإمام ابن حجر -رحمهم الله- التي ذُكرت مطلع هذا المقال، بصورة واضحة، وتعليقها في غرفة الجلوس، أو في مكان بارز في البيت؛ ليتمكن الجميع من قراءتها.. ولو أمكن إعلان جائزة مناسبة لمن يحفظها من أفراد الأسرة، لكان هذا جميلاً.
الخطوة الثانية ( التهيئة النفسية):
حيث تجتمع الأسرة في حلقة حول الأب، أو غيره من أفراد الأسرة، لبيان عظمة هذه الأيام العشر، فقد ذكرها الله تعالى في كتابه: (وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [7] ، وجاءت الأحاديث وأقوال السلف في فضلها [8] ، وأنها أعظم أيام الدنيا، وقد حثَّ نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- على العمل الصالح فيها، وأمر بكثرة التهليل والتكبير، ثم فيها يوم عرفة، ويوم النحر، واجتمعت فيها أمهات العبادة: الحج، والصدقة، والصيام، والصلاة. [9] .
يتم عرض هذا كله بأسلوب مشوِّق يتناسب مع الفئة العمرية لأفراد الأسرة، وبمزيد من المراعاة لفُهُوم الأطفال فيها.
الخطوة الثالثة (التعرف إلى أَعْمال العَشر):
دلَّت النصوص من الكتاب والسنَّة وأقوال أهل العلم على استحباب الإكثار من الأعمال الصالحة في هذه العشر، ومن ذلك:
أولاً: أداء الصلوات المفروضة على وجهها الأكمل، بأدائها على وقتها، والتبكير لها، وإتمام ركوعها وسجودها، وتحقيق خشوعها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا". [10] .
ثانياً: التقرب إلى الله بالإكثار من قراءة القرآن، والصدقات، وإعانة المحتاجين، والتوبة والاستغفار، وصلاة النوافل، وأداء السنن الرواتب، وصلاة الضحى، والوتر، وقيام الليل، فقد جاء عن سعيد بن جبير قال: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر". [11] ، كناية عن القراءة والقيام.
ثالثاً: صيام ما تيسر من أيام هذه العشر؛ فهو داخل في جنس الأعمال الصالحة، وآكدها صيام يوم عرفة لغير الحاج، قال صلى الله عليه وسلم: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ". [12] .
رابعاً: الإكثار من التهليل، والتكبير، والتحميد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". [13] ، كما أنه يُستحَبّ التكبير المطلق في البيت، والسوق، والعمل، إلا ما دلَّت النصوص على كراهة الذكر فيه، قال تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ). [14] ، وصفته: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) [15] ،"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ أَيَّامُ الْعَشْرِ ... وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا" [16] .
خامساً: ومن أعظم الأعمال في هذه العشر حج بيت الله الحرام، وقصد بيته لأداء المناسك لمن تيسر له، قال صلى الله عليه وسلم: "الحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة". [17] . وقال صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". [18] .
سادساً: ومن الأعمال الجليلة في هذه العشر المباركة؛ ذبح الأضاحي تقرباً لله، فإنه: "صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمّى وكبّر، ووضع رجله على صِفَاحِهِما". [19] .
الخطوة الرابعة (الجانب التطبيقي التربوي):
1- تشجيع الأطفال على حفظ الذكر المطلق في أيام العشر، وكذا حفظ شيء من نصوص فضائل الأعمال فيها، من خلال إعلان مسابقة لذلك وجوائز حسية ومعنوية، فإن لذلك أثره الكبير في صياغة عقلية الطفل واهتماماته في المستقبل، قال إبراهيم بن أدهم: "قال لي أبي: يا بني، اطلبِ الحديث، فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم. فطلبت الحديث على هذا". [20] .
2- اعتياد الصغير للعبادة سبب في محبتها وإلْفها، فتكون سهلة ميسورة حين كِبَره، كيف وهو يرى والديه جعلا أعمال العشر برامج تطبيقية عملية في حياتهم، يذكِّرون بالصلاة على وقتها، ويُرَدِّدُون على مسمعه كلمات الأذان، ويُرَطِّبُون أسماعه بترداد التكبير المطلق، ويصطحبونه لإيصال الصدقات وإعانة المحتاجين، يُعَرِّفونه بالسنن الرواتب وأجورها، ويُعوِّدونه صيام جزء – ولو يسيراً جداً – من اليوم.
3- الجلسات الحوارية الأسرية الهادئة لها أثرها البالغ في حياة الطفل، ولو كانت إحداها في شرح معاني مفردات التهليل والتحميد والتكبير، وشيء من دلالات أسماء الله وصفاته، وبيان الحكمة من الصلاة، والصوم، وإعانة المحتاجين، وأثر أيام العشر، ويوم عرفة على العباد، لكان في ذلك ترسيخ لمحبة الله سبحانه، وتعظيمه، وتوقيره، وقدره حق قدره، وترسيخ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبب في أن ترتبط نفس الطفل بمولاه سبحانه، وتنمو روحه وتَسْلَمُ فِطرتَه، ويبقى مستظلاً بظلها، يعيش معناها في كِبَره شيئاً فشيئاً.
4- استثمار المزايا العظيمة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم للعمل الصالح في هذه الأيام العشر، لتبيان أن الله جعلها أمام عبيده؛ ليتقربوا إليه، فتزيد حسناتهم، وتُحطّ سيئاتهم، فيفوزوا بجنة عرضها السموات والأرض. ما أنها تدل على محبة الله لعباده المؤمنين، وأن قَدْرَ الموَحِّد عند الله عظيماً؛ فلا يجوز تخويفه، أو رفع السلاح في وجهه، أو التنابز معه بالألقاب الفاحشة، فقد نظر ابن عمر -رضي الله عنه- يوماً إلى الكعبة فقال: "ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك". [21] .
5- في الأضحية إحياء لسنة أبينا إبراهيم عليه السلام، وفيها تذكير بقصَّة الفداء والتضحية والتقرب إلى الله، وفيها هدي نبينا -صلى الله عليه وسلم- يوم العيد، وحين إلقاء الوالدين على أطفالهم قصة نبي الله إبراهيم مع ابنه إسماعيل؛ إذ أصبح يوم فداء إسماعيل وإنقاذه من الذبح عيدًا للمسلمين يُسمَّى بعيد الأضحى، يذبح فيه المسلمون الذبائح تقربًا إلى الله، وتخليدًا لهذه الذكرى، تبقى هذه القصة مؤثرة في عقولهم ووجدانهم، يعيشون حياة أبطالها، يستمعون بشغفٍ إليها، ويتقمَّصون ما فيها من حِكَم أو دلالات، وينسجون لنفوسهم خيالات واسعة بين أحداثها، فيؤمنوا بما دلَّت عليه، وتفتح لهم ملكة التفكير للتعبير والإبداع النافع.
أطفالنا، أكبادنا تمشي على الأرض، أمانة في أعناقنا، يتعلَّمون خلال سِنِيِّ حياتهم مَعَنا ما يُعينهم على القيام بأدوارهم المستقبلية، تارة بالتقليد والمحاكاة، وتارة بالمحاولة والخطأ، وتارة بما اعتادوا عليه؛ فإنه من المعروف أن الطفل يتأثر بوالديه، وهذا الأثر يبقى لفترة طويلة، قد تمتد طوال عمره، وقِيَم الوالدين والأخوة تنتقل للأطفال بصورة مباشرة بحسب مجريات الحياة اليومية ومستجداتها، ولذا فعلى الوالدين إشباع أطفالهم بمنظومة قيمية، ومعرفية، وروحانية، ومهارية؛ تجعلهم مؤمنين بربهم، صالحين في أنفسهم، بَنَّائين في مجتمعهم.
----------------------------------
[1] : تحفة المودود لابن القيم رحمه الله. ص 137
[2] : تحفة المودود لابن القيم رحمه الله. ص 139
[3] : رواه مسلم رحمه الله.
[4] : رواه البخاري رحمه الله.
[5] : أخرجه الإمام أحمد. وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.
[6] : فتح الباري، ج: 2 ص: 534.
[7] : سورة الفجر: 1/2، قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: إنها عشر ذي الحجة. قال ابن كثير:" وهو الصحيح" تفسير ابن كثير8/413.
[8] : حديث الإمام البخاري، وحديث الإمام أحمد، وقول الإمام ابن حجز -رحمهم الله- التي ذُكرت مطلع هذا المقال.
[9] : نيل الأوطار.
[10] : متفق عليه.
[11] : سير أعلام النبلاء.
[12] : رواه مسلم رحمه الله.
[13] : أخرجه الإمام أحمد. وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.
[14] : سورة الحج: 28.
[15] : قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في اللقاء الشهري "يسن للإنسان في عشر ذي الحجة أن يكثر من التكبير فيقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وبعض العلماء يقول: تكبر ثلاثاً فتقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، والأمر في هذا واسع".
[16] : ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه.
[17] : متفق عليه.
[18] : متفق عليه.
[19] : رواه البخاري ومسلم.
[20] : شرف أصحاب الحديث.
[21] : رواه الإمام الترمذي، وحسنه (2032).