فضائل كلمة .. الحمد لله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
سورة الفاتحة هي أعظم وأفضل سورة في كتاب الله تعالى ، وقد بدأها الله تعالى بالحمد ، والبدء بهذه الكلمة الجليلة "الحمد لله" لا بد وأن وراءه أمر هام وعظيم ،
وهنا نبين جانبًا من هذا الأمر وهو فضل هذه الكلمة :
أعظم فضيلة للحمد أن الله تبارك وتعالى يحب الحمد :
عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قَالَ :
(( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا أُنْشِدُكَ مَحَامِدَ حَمِدْتُ بِهَا رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، قَالَ : أَمَا إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الْحَمْدَ ))فليس يتقرب العبد إلى الله تعالى بشيء مثل ما أحبه الله تعالى لنفسه الكريمة ، وقد بدأ الله تعالى بها سورة الفاتجة وسماها بها وشرع تكريرها ، لما اشتملت عليه من هذه الكلمة الجليلة ((الحمد لله رب العالمين))
ولذلك حمد نفسه جل وعلا :
فالله تعالى حمد نفسه المقدسة في غير ما ما موضع في كتابه الكريم ، فهو المستحق للحمد جل وعلا أولاً وآخرًا ، وعند فواتح الأمور وخواتيمها ، والمحمود على كل حال ، فله الحمد على ربوبيته فهو الخالق الرازق ، فاطر السماوات والأرض وما بينهما ، خالق الخلق كلهم أجمعين ، منزل الكتاب العزيز على رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه ، وهذه هي أكبر نعمة أنعمها الله تعالى على عباده ، ثم ما نعمة وفضل إلا منه سبحانه وتعالى ، وما من خير إلا من عنده جل وعلا ، فله الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ، ملء السماوات والأرض ، وملء ما شاء ربنا تبارك وتعالى .
قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))
وقال تعالى :
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ))
(( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ))
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا )) (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ))
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))
(( هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))
(( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ))
(( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))
(( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))
وبحمده تعالى تسبح جميع المخلوقات
قال تعالى :
(( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ))
وقال سبحانه :
(( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ))
ويحمده الملائكة الكرام ، فهو أفضل ما اصطفاه الله لملائكته :
عَنْ أَبِي ذَرٍّ :
(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الْكَلامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ))
قال تعالى : (( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))
قال تعالى :
(( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))
وقال سبحانه :
(( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ))
وأول ما نطق به آدم عليه كلمة : "الحمد لله" :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمُ ، اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلائِكَةِ ، إِلَى مَلإٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ ، فَقُلْ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ ، قَالُوا : وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ ..))
فالحمد لله : أول كلمة نطق بها آدم عليه السلام ، فتكون أول ما نطق به البشر على الإطلاق ، وكان هذا بإذن الله تبارك وتعالى ، مما يدل على عظيم قدر هذه الكلمة الصالحة ، ومحبة الله تبارك وتعالى لها .
وبحمد الله نطق الأنبياء والرسل الكرام :
قال تعالى عن نوح عليه السلام : ((فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ))
وعن إبراهيم عليه السلام : ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ))
وعن داود وسليمان عليهما السلام : ((وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ))
وقالها سيد المرسلين ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ))
(( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ))
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))
والآيات في ذلك كثيرة .
ويحمده أهل الجنة على وافر نعمته وعظيم فضله عليهم :
فإن أهل الجنة إذا دخلوها حمدوا الله تعالى على ما تفضل به عليهم من الهداية في الدنيا ، وما جزاهم عليه في الآخرة من دخولهم الجنة وفوزهم بالرضا والنعيم
قال تعالى (( وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ))
وقال عز وجل عن أهل الجنة :
((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ))
وقال سبحانه :
(( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ، وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))
وقال تعالى (( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي : جمعوا بين الإيمان والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة، المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح على وجه الإخلاص والمتابعة.
(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) أي بسبب ما معهم من الإيمان ، يثيبهم الله أعظم الثوابوهو الهداية، فيعلمهم ما ينفعهم، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم،. ولهذا قال (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ) الجارية على الدوام (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أضافها الله إلى النعيم لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور، والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات المشجيات، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب، والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون.
(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ) أي عبادتهم فيها لله، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض، وآخرها تحميد لله، فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء، وإنما بقي لهم أكمل اللذات، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة، ألا وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، وتفرح به الأرواح، وهو لهم بمنزلة النَّفَس، من دون كلفة ومشقة.
وأما تَحِيَّتُهُمْ فيما بينهم عند التلاقي والتزاور فهو السلام، أي: كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه (سَلامٌ) وقد قيل في تفسير قوله (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ) إلى آخر الآية، أن أهل الجنة إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما قالوا سبحانك اللهم ، فأحضر لهم في الحال.
فإذا فرغوا قالوا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).
ويوم القيامة : يبدأ بالحمد ويختم به :
قال الله تبارك وتعالى عن بداية بعث الخلق للحساب في سورة الإسراء :
(( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً ))
وقال سبحانه بعد فصل القضاء ودخول أهل الجنة الجنة ، ودخول أهل النار النار
(( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))
قال القرطبي رحمه الله :
(( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ )) الدعاء: النداء إلى المحشر بكلام تسمعه الخلائق، يدعوهم الله تعالى فيه بالخروج.
وقيل: بالصيحة التى يسمعونها، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة.
(فتستجيبون بحمده) أي باستحقاقه الحمد على الاحياء.
قال سعيد بن جبير: تخرج الكفار من قبورهم وهم يقولوون سبحانك وبحمدك، ولكن لا ينفعهم اعتراف ذلك اليوم.
وقال ابن عباس : " بحمده " بأمره، أي تقرون بأنه خالقكم.
وقال قتادة: بمعرفته وطاعته.
وقيل: المعنى
بقدرته.
وقيل: بدعائه إياكم.
قال علماؤنا: وهو الصحيح ، فإن النفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور، بالحقيقة إنما هو خروج الخلق بدعوة الحق، قال الله تعالى: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " فيقومون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك.
قال: فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد ويختم به، قال الله تعالى: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " وقال في آخر (( وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ))
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
سورة الفاتحة هي أعظم وأفضل سورة في كتاب الله تعالى ، وقد بدأها الله تعالى بالحمد ، والبدء بهذه الكلمة الجليلة "الحمد لله" لا بد وأن وراءه أمر هام وعظيم ،
وهنا نبين جانبًا من هذا الأمر وهو فضل هذه الكلمة :
أعظم فضيلة للحمد أن الله تبارك وتعالى يحب الحمد :
عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قَالَ :
(( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا أُنْشِدُكَ مَحَامِدَ حَمِدْتُ بِهَا رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، قَالَ : أَمَا إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الْحَمْدَ ))فليس يتقرب العبد إلى الله تعالى بشيء مثل ما أحبه الله تعالى لنفسه الكريمة ، وقد بدأ الله تعالى بها سورة الفاتجة وسماها بها وشرع تكريرها ، لما اشتملت عليه من هذه الكلمة الجليلة ((الحمد لله رب العالمين))
ولذلك حمد نفسه جل وعلا :
فالله تعالى حمد نفسه المقدسة في غير ما ما موضع في كتابه الكريم ، فهو المستحق للحمد جل وعلا أولاً وآخرًا ، وعند فواتح الأمور وخواتيمها ، والمحمود على كل حال ، فله الحمد على ربوبيته فهو الخالق الرازق ، فاطر السماوات والأرض وما بينهما ، خالق الخلق كلهم أجمعين ، منزل الكتاب العزيز على رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه ، وهذه هي أكبر نعمة أنعمها الله تعالى على عباده ، ثم ما نعمة وفضل إلا منه سبحانه وتعالى ، وما من خير إلا من عنده جل وعلا ، فله الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ، ملء السماوات والأرض ، وملء ما شاء ربنا تبارك وتعالى .
قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))
وقال تعالى :
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ))
(( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ))
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا )) (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ))
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))
(( هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))
(( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ))
(( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))
(( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))
وبحمده تعالى تسبح جميع المخلوقات
قال تعالى :
(( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ))
وقال سبحانه :
(( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ))
ويحمده الملائكة الكرام ، فهو أفضل ما اصطفاه الله لملائكته :
عَنْ أَبِي ذَرٍّ :
(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الْكَلامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ))
قال تعالى : (( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))
قال تعالى :
(( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))
وقال سبحانه :
(( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ))
وأول ما نطق به آدم عليه كلمة : "الحمد لله" :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمُ ، اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلائِكَةِ ، إِلَى مَلإٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ ، فَقُلْ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ ، قَالُوا : وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ ..))
فالحمد لله : أول كلمة نطق بها آدم عليه السلام ، فتكون أول ما نطق به البشر على الإطلاق ، وكان هذا بإذن الله تبارك وتعالى ، مما يدل على عظيم قدر هذه الكلمة الصالحة ، ومحبة الله تبارك وتعالى لها .
وبحمد الله نطق الأنبياء والرسل الكرام :
قال تعالى عن نوح عليه السلام : ((فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ))
وعن إبراهيم عليه السلام : ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ))
وعن داود وسليمان عليهما السلام : ((وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ))
وقالها سيد المرسلين ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ))
(( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ))
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))
والآيات في ذلك كثيرة .
ويحمده أهل الجنة على وافر نعمته وعظيم فضله عليهم :
فإن أهل الجنة إذا دخلوها حمدوا الله تعالى على ما تفضل به عليهم من الهداية في الدنيا ، وما جزاهم عليه في الآخرة من دخولهم الجنة وفوزهم بالرضا والنعيم
قال تعالى (( وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ))
وقال عز وجل عن أهل الجنة :
((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ))
وقال سبحانه :
(( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ، وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))
وقال تعالى (( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي : جمعوا بين الإيمان والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة، المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح على وجه الإخلاص والمتابعة.
(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) أي بسبب ما معهم من الإيمان ، يثيبهم الله أعظم الثوابوهو الهداية، فيعلمهم ما ينفعهم، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم،. ولهذا قال (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ) الجارية على الدوام (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أضافها الله إلى النعيم لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور، والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات المشجيات، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب، والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون.
(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ) أي عبادتهم فيها لله، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض، وآخرها تحميد لله، فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء، وإنما بقي لهم أكمل اللذات، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة، ألا وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، وتفرح به الأرواح، وهو لهم بمنزلة النَّفَس، من دون كلفة ومشقة.
وأما تَحِيَّتُهُمْ فيما بينهم عند التلاقي والتزاور فهو السلام، أي: كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه (سَلامٌ) وقد قيل في تفسير قوله (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ) إلى آخر الآية، أن أهل الجنة إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما قالوا سبحانك اللهم ، فأحضر لهم في الحال.
فإذا فرغوا قالوا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).
ويوم القيامة : يبدأ بالحمد ويختم به :
قال الله تبارك وتعالى عن بداية بعث الخلق للحساب في سورة الإسراء :
(( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً ))
وقال سبحانه بعد فصل القضاء ودخول أهل الجنة الجنة ، ودخول أهل النار النار
(( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))
قال القرطبي رحمه الله :
(( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ )) الدعاء: النداء إلى المحشر بكلام تسمعه الخلائق، يدعوهم الله تعالى فيه بالخروج.
وقيل: بالصيحة التى يسمعونها، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة.
(فتستجيبون بحمده) أي باستحقاقه الحمد على الاحياء.
قال سعيد بن جبير: تخرج الكفار من قبورهم وهم يقولوون سبحانك وبحمدك، ولكن لا ينفعهم اعتراف ذلك اليوم.
وقال ابن عباس : " بحمده " بأمره، أي تقرون بأنه خالقكم.
وقال قتادة: بمعرفته وطاعته.
وقيل: المعنى
بقدرته.
وقيل: بدعائه إياكم.
قال علماؤنا: وهو الصحيح ، فإن النفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور، بالحقيقة إنما هو خروج الخلق بدعوة الحق، قال الله تعالى: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " فيقومون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك.
قال: فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد ويختم به، قال الله تعالى: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " وقال في آخر (( وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ))