الأنباط قوم من العرب جاؤوا من قلب شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الشام وشمالي الحجاز.
لم يأت الأخباريون العرب على ذكرهم بالاسم، وإن كانوا ألمحوا إلى بعض آثارهم في الشام والحجاز من دون معرفة أصحابها. ويقتصر ياقوت الحموي في ذكره لِسَلْع (ولعلّها البتراء) بالقول: حصن بوادي موسى عليه السلام بقرب بيت المقدس.
وأكثر ما عرف من تاريخهم وحدود مُلكهم في الزمان والمكان ودورهم الاقتصادي والحضاري كان من المصادر القديمة، ولاسيما البقايا الأثرية النبطية في شرقي الأردن وجنوبي سورية وفلسطين وشمالي الحجاز.
ومنذ أن أطْلعَ بدوُ وادي موسى الرحالةَ السويسري بوركهارت على البتراء عام 1812، بدأ اهتمام العلماء بالأنباط ينمو باطراد. واليوم تُعززُ المعرفةُ بهم بعشرات المؤلفات والبحوث وبعمليات البحث والتصوير الجوي والتنقيب الأثري.
وأول أعمال التنقيب الأثري قام بها هورسفلد وكونوي عام 1929 واتسعت التنقيبات اليوم كثيراً، وشملت العدد الأكبر من مراكز الأنباط قرب بلدة قنوات في جبل العرب حتى واحة الحجر «مدائن صالح» في العربية السعودية. وينفذ هذه الأعمال اختصاصيون بينهم الكثير من الآثاريين العرب.
وعلى كثرة البحث والتحري عن تاريخ الأنباط وحضارتهم، فإن بعض المشكلات حولهم تبقى من دون حل ومنها مهد الأنباط ومآلهم وأوائل أيامهم وتسلسل ملوكهم وتاريخ بعض أوابدهم.
أصل الأنباط
يجمع العلماء على أن ما تسميه التوراة «نبايوت بن إسماعيل وأخاقَيْدر» لا علاقة له بالأنباط، وليس هناك من دليل قاطع على أن «النبياطي» المذكورين في أخبار الملك الآشوري «آشور بانيبال» في القرن السابع قبل الميلاد هم الأنباط، وإن كان ذلك محتملاً جداً.
الأنباط 969-3.jpg
والأنباط عرب بكل ما في الكلمة من معنى، وعلى هذا الأمر يقوم الإجماع قديماً وحديثاً، فموطنهم كان يسمى «العربية الحجرية» وأسماء الأعلام لديهم عربية (حارث - عبادة - مالك - قصي - جميلة)، ومعبوداتهم عربية (ذو الشرى واللات والعزى وهُبَل ومَناة). ويثبت هذا الأمر تيودوروس الصقلي وسترابون ، ويلمح إليه المؤرخ الروماني بلينيوس الأكبر ويكرر المؤرخ يوسفوس ذكر «العرب الأنباط»، وعندما يذكرُ أحدَ ملوكهم يسميه «ملك العرب».
ومن الثابت اليوم أن الأنباط جاؤوا من قلب الجزيرة العربية واستقروا زمناً ما في الحجاز، وهناك من يرى أنهم حجازيون أصلاً يشاركون قريشاً في أكثر أسماء الأشخاص، وخطهم قريب جداً من خط كتبة الوحي، وأن القلم العربي مأخوذ من قلم النبط، وقد حلوا في موطن الأدوميين.
اعتمد الأنباط على تجارة القوافل، واغتنوا وأسسوا مملكة مهمة، وكتبوا بالآرامية التي أخذوها غالباً عن الأدوميين، وكانت الآرامية لغة التجارة في غربي آسيا منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد، كما أنها أصبحت لغة بلاط الفرس الأخمينيين. ولاشك في أن الأنباط كانوا يتكلمون العربية فيما بينهم، ويذكر جان كانتينو أن لغة الكلام لديهم أخذت تؤثر تدريجياً في آرامية اللغة المكتوبة حتى آلت فيما بعد إلى عربية شبه كاملة في نص النمارة (شرق شهبا) للملك المعروف امرئ القيس.
الأنباط والنبط والنبيط
يرجح أن قدوم الأنباط كان في القرن السادس قبل الميلاد، ولكن إطارهم التاريخي المعروف يراوح بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الثاني بعده. وفي التاريخ العربي الإسلامي نبيط وأنباط آخرون ذكروا بعد ستة قرون تقريباً من الأنباط موضوع البحث. ويعرفِّهم القاموس المحيط بما يلي:
النبط، جيل ينزلون بالبطائح بين العراقيين كالنبط والأنباط وهو نبطية ونباطي ونباط، وتنبط تشبه بهم أو تنسب إليهم، وفي معاجم أخرى يقال إنهم من العجم أو من أولاد شيث، وهناك «نبيط أهل الشام» وهم السكان المحليون العاملون في الزراعة.
يصف تيودور الصقلي الأنباط بالمنعة وحب الحرية والغزو والصبر على الجوع والعطش، ويذكر أنهم لم يخضعوا لأحد ولم ينجح أحد في السيطرة عليهم، وتلك بطبيعة الحال من صفات البيئة البدوية. وقد ظلت البداوة ظاهرة في مجتمعهم، في تربية الماشية وتسيير القوافل. وإذا كانت لديهم بعض الزراعات وإذا كانوا قد استغلوا مناجم النحاس في أدوم، واستخرجوا الإسفلت من الضفة الشرقية للبحر الميت، فإن اقتصادهم كان يعتمد أساساً على التجارة، ولاسيما تجارة القوافل وأحياناً تجارة البحر أيضاً.
لمحة عن تاريخهم
كان مجيء الأنباط إلى جنوبي الأردن نحو القرن السادس ق.م على الأرجح، على أن أول ذكر لهم في التاريخ، على ما يعرف حتى اليوم، يعود إلى عام 312ق.م عندما غزاهم «أنتيغون» أحد قواد الاسكندر المقدوني ولكنه باء بخيبة الأمل. ثم إن أول وثيقة محررة بالكتابة النبطية هو النص المعروف بنص الخالصة من نحو القرن الثالث ق.م ويذكر الحارث ملك الأنباط.
ويُقسم تاريخ الأنباط إلى مدتين أساسيتين، تمتد الأولى من 312 ق.م (عام غزوة أنتيغون) حتى 64ق.م (عام احتلال الرومان لجنوبي بلاد الشام). وتمتد المدة الثانية من عام 64 المذكور حتى عام 106م وهو عام تأسيس الامبراطور الروماني ترايانوس للولاية الجديدة التي سميت «الولاية العربية» Provincia Arabia وعاصمتها بصرى وقد حلت محل مملكة الأنباط.
المملكة النبطية في العصر الهلنستي
في القرن الثالث قبل الميلاد كانت سورية الجنوبية في يد البطالمة الذين حاولوا دون جدوى إخضاع المملكة النبطية والخلاص من سيطرتها على البحر الأحمر. وفي هذا القرن يرد ذكر حارثة (أو الحارث) ملك الأنباط في نص مكتشف في موقع «الخالصة» على طريق غزة. ونحو 168ق.م ورد في سفر المكابيين ذكر للملك النبطي الحارث الأول. وبعد وقت قليل نشب النزاع بين الأنباط والمكابيين اليهود وبين الأنباط والعرب الإيطوريين حول بعض ممتلكات الدولة السلوقية في جنوبي بلاد الشام. وفي نحو عام 100ق.م اصطدم الحارث الثاني باسكندر جانوس المكابي الذي استولى على غزة وهدد بذلك مصالح الأنباط الاقتصادية. ولكن ملك الأنباط عُبادة الأول هَزَم َنحو عام 93ق.م ذلك الملك اليهودي عند أم قيس (جَدَرة) واسترد بعض المناطق التي اغتصبها، كما انتصر جيش عبادة الأول في النقب على ملك السلوقيين أنطيوخوس الثاني عشر في عام 85ق.م، وأصابه بجراح قاتلة وشتت شمل جيشه.
خلف عُبادة الأول ابنهُ الحارث الثالث فيلوهيلينوس (أي محب اليونان) وهو أشهر ملوك الأنباط، وفي عهده كانت دمشق في دولة الأنباط بين 84 و72ق.م وضربت نقودها باسمه. وبعد حرب سجال بينه وبين اسكندر جانوس أحاط الحارث الثالث بمملكة المكابيين اليهود من الجنوب والشرق وغزاها فانهار الجيش اليهودي في معركة أويدا (حديثة) قرب اللد، ومات اسكندر جانوس في 78ق.م، ودب النزاع بين ولديه، فرأى الحارث الفرصة مواتية للتحرك، وزحف على يهوذا بجيش جرار نحو عام 65ق.م، وحاصر القدس حصاراً شديداً وكادت تسقط لولا طلب الرومان من الحارث فك الحصار لقاء ضمان صداقتهم، وكان ذلك تغريراً به من الرومان سبب تأزم الوضع ووقوع الحرب بينه وبين الرومان الذين وصلوا إلى البتراء نفسها نحو عام 62ق.م، ثم تم الصلح بين الطرفين ورفع بومبي صورةً للحارث في موكب نصره.
المملكة النبطية في العصر الروماني
مات الحارث الثالث بُعيد هذه الأحداث في 62 أو61ق.م. وخلفه على الراجح ابنه عُبادة الثاني الذي يعرف من النقود النبطية فحسب، وأتى بعده مالك الأول (58 - 30ق.م) الذي أنجد يوليوس قيصر في حصار الاسكندرية بنصيحة من وزيره أنتيباتروس الأدومي صهر الأنباط، وبعد هذه المرحلة تعقَّد الوضع واشتدت النزاعات العائلية في مملكة يهوذا وتحالف الأنباط مع الفرثيين (الفرس) الذين تدخلوا في المنطقة، وملَّك الرومان هيروديس على اليهود عام 40ق.م، ولم يكن هيروديس يهودياً إنما نصفه نبطي ونصفه أدومي. وفي الخلاف بين أنطونيوس وأكتافيوس كان موقف مالك الأول متقلباً، ويظن أن كليوباترة هي التي سعت في قتل مالك الأول الذي خلفه عبادة الثالث (30 - 9 أو 8ق.م) الذي أمضى عهده في نزاع مع اليهود، وكان عنده وزير قدير يعرف في المصادر اللاتينية باسم سيلاوس (لعله صالح) كان دليل حملة إيليوس غايوس والي مصر الروماني عام 25 ق.م للسيطرة على تجارة اليمن والجزيرة العربية، ويذكر سترابون أن سيلاوس ضلل الجيش الروماني وسبب إخفاق الحملة فأعدمه الرومان.
أتى بعد عبادة الثالث الحارث الرابع (8/9ق.م - 40/41م) وكان يلقب «رحيم عمه» (أي محب شعبه) وكان عهده أطول عهد نبطي وأكثره ازدهاراً وإنجازاً، إذ وصلت العاصمة البتراء في أيامه إلى ذروة تألقها، وفي عهده أيضاً أعيدت دمشق إلى مملكة الأنباط كما يُستنتج من رسالة بولس الرسول إلى أهل كورنثة. ويؤكد ذلك نقص في تسلسل العملة الرومانية المضروبة في دمشق وهذا النقص يقابل عهد الحارث الرابع، الذي اشتبك طويلاً في صراع مع اليهود ومع الرومان. وكان يعاصر الحارث الرابع هيروديس أنتيباس الذي قطع رأس يوحنا المعمدان في قصة سالومي الشهيرة، وحكم على السيد المسيح بالصلب. وقد انتصر الحارث الرابع على هيروديس أنتيباس انتصاراً باهراً في معركة جلعاد عام 7م ولاقى هيروديس حتفه منفياً في إسبانية.
خلف الحارث الرابع ابنه مالك الثاني (40/41 - 70/71م) وفي زمنه زادت أهمية بصرى وغدت العاصمة الثانية للأنباط. وقد رفدت قوات نبطية جيش الامبراطور تيتوس الذي تجمع في عكا لسحق عصيان اليهود، وبعد وفاة مالك الثاني حكمت زوجته شقيلات وصية على ابنهما رابيل الثاني (70 أو 71 - 106م) حتى بلغ الرشد، وقد أطلق على نفسه لقب «محيي شعبه ومنقذه»، وبذل عناية خاصة بالزراعة في النقب وجهات بصرى، وكان آخر ملوك الأنباط. إذ إن الامبراطور ترايانوس أمر واليه على سورية كورنيليوس بالما بإلحاق مملكة الأنباط بالامبراطورية الرومانية بعد أن ضم إليها اتحاد المدن العشر المعروف باسم «الديكابوليس» وأعلنها ولاية رومانية عام 106م.
انتهى استقلال الأنباط السياسي ولكن حضارتهم تابعت سيرها بمظهر روماني، ويرى بعض اختصاصيي العملة القديمة أن البتراء أعطيت لقب المستوطنة Cala الرومانية في عهد الامبراطور الحمصي إيلاغبل (218 - 222م).
ومع انتشار المسيحية بقي قسم من الأنباط متمسكاً بالديانة الوثنية «العربية القديمة» وتعايشت الديانتان. وفي عام 325م اشترك أسقف البتراء في مجمع نيقية، وتذكر المصادر أسماء غيره من أساقفة البتراء.
الاقتصاد والمجتمع ونظام الحكم
كان الاقتصاد النبطي يقوم أساساً على التجارة والوساطة والترانزيت وعلاقة الأنباط بالبطالمة، والسلوقيين ومن ثم بالرومان، وصراعهم مع اليهود الأشمونيين المكابيين، ومع السلالة اليهودية الأدومية، في مختلف أجزاء فلسطين وسورية الجنوبية. وانتشارهم على طول طريق التجارة الدولية بين البحر الأحمر وسورية ناتج في أكثر الحالات عن الحاجة إلى ضمان السير الطبيعي المأمون لتجارتهم الناجحة، وتجارة الترانزيت التي كانت تضمن لهم أحياناً ربحاً يعادل ربع قيمة البضائع.
وأقدم تجارة للأنباط هي إنتاج الإسفلت وبيعه لمصر حيث يستخدم في التحنيط، ويؤكد سترابون صفتهم التجارية.
ولا تكفي تجارة الإسفلت لاشتهارهم بل مرد تلك الشهرة إلى قيامهم بالمبادلات الدولية والسيطرة على طرق التجارة العالمية مستفيدين من موقعهم الممتاز الذي تتلاقى عنده أهم طرق القوافل، ومنها الطرق الجنوبية الشمالية التي تصل اليمن وحضرموت ببلاد الشام مارة بمحاذاة البحر الأحمر حتى دمشق ثم تتفرع إلى موانئ البحر المتوسط، وطريق أخرى غربية تسير من معان باتجاه غزة وشمالي مصر، وطريق ثالثة شرقية تجتاز دُومة الجندل (واحة الجوف اليوم وكان اسمها قديماً إدومو) لتتصل بمنطقة الخليج العربي وبلاد بابل، وثمة طرق أخرى أقل أهمية. وعلى هذه الطرقات كانت تُنقل العطور والبخور واللبان من الجزيرة العربية والحرير والرياش من فارس والهند وما وراء النهر، والزجاج والتماثيل والأخشاب والأقمشة والحبوب من بلاد الشام.
وقد جمَّع الأنباط من هذه العمليات أموالاً طائلة، مكنتهم من إقامة مملكتهم القوية التي كان قوامها طبقة من أغنياء التجار ورجال القوافل تتحلق حول عاصمة منيعة هي البتراء، وضربوا العملة الخاصة بهم ووضعوا مكوساً على الترانزيت وعلى البيع والشراء، وكان يحمي هذه المصالح هجانة شديدو البأس وجيش متمرس.
ولا يعرف بالضبط عدد القائمين على هذا النشاط، ولا كيفية تنظيم سير القوافل وترتيبها الداخلي وحمايتها، وعلاقة التجار بالوسطاء والزبائن وأساليب التخزين والتصريف والقرض والفائدة. فالكتابات النبطية على كثرتها ليس فيها إلا القليل من الصكوك الاقتصادية.
وإذا لم يكن يعرف الكثير عن تنظيم الدولة لدى الأنباط فإن ما وصل من المصادر أو النصوص أو النقود يسمح بالاستنتاج أن الملك هو رأس الدولة الأعلى وتشاركه زوجته أو أخته أو أمه كما يتبين أحياناً كثيرة من صورهم على النقود. وللملك حاشية تضم مستشارين بمنزلة الوزراء ويسمى كل منهم أخا الملك (أخ ملكا). وهناك مجلس للشعب يقدم له الملك حساباً عن عمله. ويضاف إلى ذلك طبقة عمال المقاطعات وقواد الجيش.
ويظهر أنه كان للنساء منزلة رفيعة لدى الأنباط، ولهن حق الملكية والتوريث والعمل في التجارة ويتحدث سترابون حديث المعجب بمجتمع الأنباط، فيذكر تواضع الملك الذي يخدم ضيوفه، وتعاون الأنباط فيما بينهم وتآزرهم، وقلة العبيد لديهم.
ويتحدث كذلك عن ولائمهم السخية واجتماعاتهم وآداب طعامهم وشرابهم وبساطة زيهم (قميص وخف) وعن بيوتهم الحجرية ومدائنهم المستغنية عن الأسوار. وعلى الجملة يستنتج من عادات الحكم والمجتمع الصفة القبلية في تنظيم الدولة النبطية.
الديانـة
إن الديانة النبطية كديانة العرب قبل الإسلام، كانت تقوم بالأصل على تقديس الأفلاك وغيرها من عناصر الطبيعة وبعض القيم كالشجاعة والعدالة.
وبعض الأرباب كان بالأساس رباً لقبيلة معينة أو مكان محدّد كما يدل اسمه ونسبته بـ «ذو» والأرباب والربات لا يمثلون تمثيلاً تشخيصياً بل رمزياً، إذا صح التعبير، فتنوب عنهم نُصب (مصبا) أو بيت إيل (أي بيت الإله) أو مجلس (موثبا)، ويتقرب الناس منها بالنذور والأضحيات وبالدعوات.
وبتأثير الديانات اليونانية الرومانية كان الأنباط ينزعون أحياناً إلى التشخيص، وذلك بتقريب النصب من الشكل البشري، أو اقتناء تمثال جاهز. كما تم توحيد أربابهم بالأرباب الرومانية. وليس لدى الأنباط ميثولوجية معقدة، وعنايتهم الشديدة بالقبور كما هي الحال في تدمر، تعكس في الواقع نوعاً من المباهاة أكثر مما تعكس تصوراً عن الحياة الأخرى.
رأس أرباب الأنباط هو ذو الشرى (كما عرف في المصادر الكلاسيكية) واسمه عربي واضح وهو ينسب إلى جبال الشراة. ويسمى أيضاً «رب جيا» وهي قرية وادي موسى الحالية، ويوحَّد عادة بـزيوس (زفس) أو ديونيزوس (أدونيس)، وقد أصبح رب السلالة النبطية. ويظن أن معبد البتراء الكبير كان مخصصاً له، كما أن له معبداً في بصرى. والربة التي تقترن عادة بذي الشرى هي العُزَّى، وهي ربة عربية أيضاً، واسمها يعني العزيزة أي القوية. وقد وحِّدت بفينوس أفروديت ولها معبد في البتراء، وتمثل بحجر مكعب غير مصور، أو عليه شكل وجه مختزل، وقد وجدت نماذج من ذلك في البتراء ورمّ (إرم القديمة)، ومدائن صالح.
ولدى الأنباط رب يوحَّد بالرب نبو/أبولون هو كَتْبا أو أَكْتب (أي الكاتب) وأصله لحياني من ديدان، ووجد مقترناً بالعزى في رمّ بين البتراء والعقبة. وفي بعض الآراء أن الرب «كتبا» هو «ذو الشرى» نفسه.
ومن معبودات الأنباط اللات واسمها يعني الربة وهي موحدة بأثينة. وكانت عبادتها غالباً في القسم الشمالي من بلاد الأنباط، وقد اختلطت خصائص اللات بالعزى أحياناً. أما ربة القَدَر فهي «مَناة» (منوة أي المكينة) اسمها يتردد كثيراً في كتابات المدافن خاصة في موقع الحجر (مدائن صالح). وتُوحَّد مناة بالربة نيمسيس، ومناة لدى عرب الحجاز هي الثالثة في ثالوث الربّات اللات والعزّى ومناة. وثمة أرباب آخرون لدى الأنباط مثل «شيع القوم» رب القوافل الذي لا يشرب الخمر وهُبل. وإن الدراسات النبطية مستمرة، ويمكن أن تأتي التنقيبات والكشوف بأسماء أرباب آخرين وتفسر بعض الرموز التي تشاهد مرسومة على صخور البتراء والحجر.
ولدى الأنباط أماكن عالية للعبادة ومعابد للطواف تتألف من ساحة محاطة بسور يتوسطها هيكل مكعب، ومُصلَّيات صغيرة أمام الأنصاب الجدارية.
وفي مدافنهم ما يدل على وجود الوليمة الجنائزية والحرص على راحة الميت في بيت الأبدية. وفي هذا الصدد يمكن إيراد نص طريف من القبر «ب 12» في موقع الحجر «هذا القبر أعدته كمكام بنت وائلة بنت هنم وكليبة ابنتها لنفسهما ولذريتهما في شهر شباط من السنة التاسعة للحارث ملك الأنباط الذي يحب شعبه. وليلعن ذو الشرى عرشه واللات.. ومنوة وذراعاها كل من يبيع هذا القبر أو يشتريه أو يرهنه أو يهبه أو يخرج منه جثة أو عظاماً أو يدفن فيه أحداً غير كمكام وابنتها وذريتهما. وكل من لا يتبع ما هو مكتوب فيما تقدم يدفع لذي الشرى وهبل ومنوة خمس شمدات وللكاهن غرامة ألف من دراهم الحارث المربعة (تترا دراهم) إلا إذا أبرز تفويضاً موثقاً من يد كمكام أو كليبة ابنتها في موضوع هذا القبر. وقد صنع هذا القبر وهب اللات بن عبادة».
الفن والعمارة
إن الفن النبطي فن مَحلّي متأثر بفن جنوبي الجزيرة العربية والرافدين، وقد طبع بطابع هلنستي خاصة من مدرسة الاسكندرية والمدرسة السورية، نتيجة للقرب الجغرافي والعلاقات السياسية والاقتصادية المشتبكة. وتجلى الفن النبطي أكثر ما تجلى في العمارة، وخاصة عمارة المدافن، والمدافن/المعابد التي أصبح لها طابع متميز وخصائصه يدركها المرء من النظرة الأولى.
وفن العمارة تركز معظمه في البتراء وتجلَّى بنحت الصخر الرملي الجميل وإنشاء الأوابد في أعماقه أو على ذراه حتى لو كانت معابد أو مسارح. وقد برز الفن النبطي خاصة بنحت واجهات معمارية زخرفية رشيقة بديعة للأوابد، وأكثرها من المدافن. وتعتمد هذه الواجهات على زخرف المدرجات و «الشّرافات» (الميرلونات) الصماء، وأشكال الصور، ونظم هلنستية متكاملة من قواعد الأعمدة حتى الأفاريز والأطناف وقواعد التماثيل (الاكروتيرات) والقلانس والمنحوتات التي تمثل أربابا وربات أو رموزها. وقد أبدع فن العمارة النبطي طرزا جديدة من تيجان الأعمدة فيه اختزال وجمال انتشر في المنطقة النبطية كلها. وإن آثار العمارة النحتية في موقع الحجر (مدائن صالح) مشابهة على العموم لآثارها في البتراء ولكنها دونها من حيث الزخارف والحجوم.
وقد مرت العمارة النبطية مبدئياً بأطوار ثلاثة: أولها طور قديم بسيط يستفيد من إمكانية نحت الصخر للحصول على فراغ للسكن أو معازب للدفن.
وطور ثان يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، وترى الواجهات فيه مزخرفة بأفاريز مفردة أو مزدوجة، أو مزينة بالشرافات والمدرجات، والأبواب محاطة بأُطرٍ دُوريَّة الطراز أما الطور الثالث الذي يعود إلى القرن الأول الميلادي فيتصف باستعمال موفق لعناصر هلنستية ورومانية في زخرفة الواجهات كالعضائد والأعمدة وجبهات الأبواب المقوسة والمثلثة والتماثيل والنقوش البارزة.
أما نحت التماثيل لدى الأنباط فهو أقل طرافة وأهمية، وهو منفَّذ بالحجر الكلسي أو الرملي في الجنوب وبحجر البازلت في الشمال. ومنه ما هو محليِّ صرف، ومنه ما هو تقليد لموضوعات إغريقية، أو مزيج من الفن الإغريقي والتقاليد المحلية.
وعلى كل حال فإن الأنباط، في حدود ما يعرف من منحوتاتهم، أمناء للتقاليد الشرقية في الميل إلى النقش البارز أكثر من الميل إلى التماثيل، والنزوع إلى التحوير والاختزال وتحديد المواضيع والقسمات بشكل خطي واضح، والعناية بالوجود الرمزي، أو الروحي إذا صحَّ التعبير، مقابل التشريح والحركة.
وإذا كان الأنباط، لم يبدعوا تماثيل باهرة، فإنهم أبدعوا في ميدان صناعة الفخار، فإضافة إلى الفخار العادي، تركوا في طول البلاد وعرضها حتى حدود بصرى، واعتباراً من القرن الأول قبل الميلاد فخاراً رقيقاً ناعماً متسقاً جيد الشي لونه وردي أو طحيني مزخرف بلون زهري أو خمري أو قاتم. والزخرف يستخدم النبات المحوّر غالباً والمأخوذ من البيئة المحلية. وأكثر نماذج هذا الفخار صحاف وأكواب. وفي الطور الثاني من صناعة هذا الفخار أصبحت الزخارف أشد كثافة ودخلت فيها عناصر زخرفة هندسية وداخلها طلاء أبيض. أما السُرُج الفخارية النبطية فهي تقليد النماذج الهلنستية وتحمل زخارف وكتابات نبطية.
البتـراء
البتراء عاصمة الأنباط الشهيرة. تقع في خانق يُعرف بوادي موسى في جبال الشراة المتجهة نحو خليج العقبة في المملكة الأردنية الهاشمية. ويجمع الباحثون اليوم على أن البتراء لم تكن أول عاصمة للأنباط، فعاصمتهم الأولى كانت البصيرة وهي تقع على بعد نحو 50 كم إلى الشمال من البتراء. وفي بعض الآراء أن العاصمة القديمة كانت في بقعة البتراء نفسها، في جبل أم البيارة أو في قرية الجي (أي قرية وادي موسى).
وقد اتضح أنّ سَلْع أو صخرة آدوم المذكورة في التوراة عاصمة للأنباط، لا تنطبق على البتراء نفسها التي لم تُتَّخذ عاصمة إلا في القرن الرابع قبل الميلاد. وهي التي هاجمها القائد أنتيغونوس عام 312 قبل الميلاد دون جدوى كما ذكر من قبل.
وقد ظلت البتراء عاصمة الأنباط أكثر من أربعة قرون، واشُتهرت باسمها اليوناني Petra ويعني الحجر أو الصخر. ولعل الأنباط أنفسهم استعملوا هذا الاسم، ولكن المرجح أنهم كانوا يسمون عاصمتهم رقم أو رقيم.
كانت منطقة البتراء صالحة للسكن منذ العصر الحجري الحديث كما دلت أعمال التنقيب الأثري في موقع البيضة بجوار البتراء. وقد بينت التحريات الأثرية علاقة وثيقة مبكرة بين مصر وهذه البقعة.
كان بوركهارت، كما ذكر سابقاً، أول أجنبي يزور البتراء عام 1812، وتلاه عدد من الرحالة والعلماء حتى الحرب العالمية الأولى. ومن أشهرهم إيربي ومانغلر، وروبنسن، ودوتي، وفورد، وموزيل، ودالمان، ولاغرانج وفانسان.
وفي مطلع القرن العشرين ومع التقارب والتحالف العثماني الألماني قدم إلى المنطقة برونوف وداماشفسكي مستكشفين، ثم ألّفا كتابهما الولاية العربية الذي يُعدّ من المراجع الأساسية عن الأنباط. وتلاهما فريق ألماني آخر منهم فيغاند قام إبان الحرب العالمية الأولى بأفضل دراسة هندسية عن البتراء في ذلك الحين.
أما أعمال التنقيب فإن أولها يعود إلى عام 1929، وقام به جورج هورسفيلد مدير آثار الأردن آنذاك، وزوجته آنييس كونويْ. وقد تم على يدهما بمؤازرة من و.ف. أُلبرايت إجراء دراسات طبقية (استراتيغرافية) غير موفقة كثيراً، وتحريات في المدفن المعروف بالخزنة وبالمدفن المعروف بمدفن الجندي الروماني. وقامت المدرسة البريطانية في القاهرة بإجراء بعض التحريات في بعض المدافن شمالي مدينة البتراء. وبعد استقلال الأردن قامت مديرية الآثار الأردنية بدءاً من عام 1954 بأعمال ترميم وتنقيب مختلفة، وما تزال تقوم إلى اليوم مستقلة أو مشاركة لبعثات أجنبية، بأعمال مهمة في شارع المدينة ومساكنها وفي المدافن والمعبد المعروف بقصر البنت، فضلاً عن أعمال الترميم الواسعة. ويشرف على هذه التنقيبات آثاريون من المملكة الأردنية مثل فوزي زيادين ومحمد مرشد خديجة. أما أعمال الترميم فكانت بإدارة يوسف العَلمي.
وبدءاً من عام 1955 قامت بعثة المدرسة الأمريكية للآثار بالقدس ومعها فيليب هاموند بتحريات سطحية، واشتركت مديرية الآثار الأردنية مع ديانا كيركبرايد في تنقيبات الشارع الرئيسي وهو من العهد الروماني. ثم قامت المدرسة البريطانية في القدس بإدارة بيتربار في مطلع الستينات بتنقيبات في السور والشارع الرئيسي واشترك معها فريق أمريكي بإدارة فيليب هاموند.
وقد تمت أعمال مسح وتصوير (فوتوغرامتري) بين 1965 و 1968 على يد فريق بيتربار، ثم بناء على طلب الحكومة الأردنية اتفقت اليونسكو مع المعهد الجغرافي الفرنسي على القيام بمسح فوتوغرامتري آخر شامل لموقع البتراء وما حولها، وتم ذلك في عام 1974 على يد موريس غوري وفيليب هوتييه بإشراف فوزي زيادين والأب ستاركي. وانتهى المخطط الفوتوغرامتري عام 1977. وهناك تعاون أردني ألماني وتعاون آخر فرنسي في تنقيبات البتراء. وقد عاود هاموند منذ عام 1973 التنقيب شمال الشارع وعَثَر على معبد ومسكن هناك.
وعموماً فإن النصوص المكتشفة قليلة، وأغلب البيوت ما تزال تؤرخ تقريبياً، بما في ذلك أهم أوابد البتراء المدفن المعروف باسم الخزنة ومعبد «ذو الشرى» المعروف باسم القصر والأخير كان ينسب إلى عهد الولاية العربية التي أسسها الرومان عام 106م حتى بينت أعمال التنقيب الأردنية البريطانية (1963) أنه نبطي البناء وأن تمثالاً للحارث الرابع (النصف الأول من القرن الأول الميلادي) كان قائماً فيه.
تقع البتراء في خانق بجبل أم البيارة، يحده جرفان هائلان من الحجر الرملي السماقي اللون بارتفاع نحو مئة متر. ويصل المرء إلى المدينة بعبور شق ضيق ظليل رطيب متعرج طوله نحو 1600 متر ويضيق أحياناً إلى ما لا يزيد على مترين، واسم هذا المعبر «السيق». وهو منحوت من الصخر ويمكن سده بسهولة عند الحصار. وكان هذا الممر معبداً في حينه، كما كان مزوداً بسد يحميه من السيول بتصريف الماء إلى نفق معد لهذه الغاية.
إن العابر في هذا السيق يتأمل بدهشة هذه الجدران الصخرية الشاهقة، ويلمح على تلك الجدران أنصاباً منحوتة على هيئة شواهد جنائزية هرمية يعرف كل منها في الكتابات النبطية واللغات السامية عموماً باسم نفشا (أي النفس). أي أن هذه الشاهدة هي نفس الميت أوحضوره الرمزي، كما تشاهد محاريب فيها أنصاب دينية منحوتة، وهي رموز لأرباب غير مشخصين، إذ إن الديانة النبطية كأكثر الديانات العربية القديمة ضد «التشبيهية».
وإذا صعد المرء في السيق على مرتفع صخري يشاهد المدفن المحفور في الصخر المعروف باسم المدفن ذي المسلات الأربع، وهذه المسلات ترمز إلى الموتى المدفونين فيه. وفي داخل المدفن مجلس بشكل حدوة الجواد معد للوليمة الجنائزية.
وبعد أن يضيق السيق ينفرج عن فسحة يتصدرها أجمل معالم البتراء، وهو المدفن الرائع الوردي اللون المعروف باسم الخزنة (خزنة فرعون) وسمي كذلك لاعتقاد البدو هناك أن كنوز الفرعون المذكور في قصة موسى مخزونة في ذروته المخروطية المنتهية بشكل إجّانة (وهي رمز المرمدة أي الإناء الذي يحفظ فيه رماد الموتى)، وهذا المدفن، الذي يعد مفتاح العمارة النبطية، يتعمق داخل الجبل بشكل متقاطع، أما الواجهة فقد نحتت نحتاً بتفاصيلها المعمارية الكاملة بارتفاع أربعين متراً، وهي تتألف من طابقين: طابق أرضي على شكل رواق بستة أعمدة، وطابق علوي يتوسطه برج مستدير سقفه مخروطي، ويحف بالبرج رواق من جهاته الثلاث. ويُرى هذا الشكل في بعض الرسوم الجدارية (الفريسك) في مدينة بومبي. وهذا الأسلوب النبطي الباروكي في عمارة المدافن متأثر، على رأي كثير من الاختصاصيين، بعمارة المدافن في الاسكندرية الهلنستية، أواخر القرن الأول قبل الميلاد. ويتجلى ذلك الأثر باستخدام الطوابق والبرج المستدير، كما يتجلى في تفاصيل الأفاريز، والتيجان الكورنثية ما قبل الفيتروفية (نسبة إلى المعمار الروماني فيتروفيوس) والطابق الأرضي في مدفن الخزنة مزين بمنحوتتين تمثلان الديوسكورَيْن وهما «كستور» و«بولوكس» ابنا الرب «زيوس» من زوجته «ليدا». وتزين الطابق العلوي للمدفن منحوتات تمثل الأمازونات (النساء المحاربات) وربات النصر. وفي الوسط على البرج المستدير، ربة سعادة المدينة. ويغلب على الظن أن هذا المدفن أعد للملك الحارث الرابع أو عبادة الثالث.
وباقتراب الناظر تدريجياً من فسحة المدينة يمرّ بنماذج من واجهات المدافن المنحوتة في الصخر، وكل منها محددة بعضادتين بتيجان نبطية. ويتألف قسمها العلوي من إفريز مفرد أو مزدوج من المدرجات والشرافات. ويمر الزائر بمدفن عنيش وزير الملكة شقيلات أم رابيل الثاني والوصية عليه. ثم يمر إلى اليسار بمسرح مهيأ في الصخر يتسع لأكثر من ثلاثة آلاف مشاهد وهو يؤرخ بنحو نهاية القرن الأول قبل الميلاد.
وعند المسرح ينفتح وادي «السيق»على مصراعيه فيرى الزائر إلى اليمين واجهات مدافن غاية في الجمال يعود أكثرها إلى عهد الحارث الرابع وما بعده ومنها مغار النصارى (بيت دوروتيوس) ومدفن سكتوس فلورنتيفوس (من أوائل حكام الولاية العربية الرومانية) وعليه نُحت النسر الروماني، والمدفن ذو الطوابق الذي تشبه واجهته القصور الفِرْثية في فارس، والمدفن الكورنثي، وهما من عهد مالك الثاني (النصف الثاني من القرن الأول بعد الميلاد). وهناك المدفن الدُوري الذي حُوِّل إلى كنيسة في عهد الأسقف جاسون عام 446 ميلادي. والمباني العامة في وسط المدينة تقوم على جانبي شارع رئيسي شرقي غربي مروَّق من الجهتين ومبلّط، فيه مسرح صغير على بعد نحو 300 متر من المسرح الكبير السابق ذكره، وهيكل لحوريات الماء عند مخرج الوادي المعروف بوادي المناحة. وفي الجهة الجنوبية من الشارع الرئيسي بقايا معبد كبير مجهول الهوية. وينتهي هذا الشارع ببوابة ثلاثية المدخل، ويقوم عندها ما يسمى القصر وهو المعبد الرئيسي السوري الطراز المكرس لـ «ذو الشرى» وقد عثرت فيه البعثة الأردنية البريطانية على نص إهداء تمثال للملك الحارث الرابع. ويتصدر حرم المعبد بيت الصنم المرتفع «إديتون»، وأمام الحرم مذبح. وفي الجدار الجنوبي للصحن عتبة طويلة لجلوس المتعبدين. وبجوار المعبد أطلال ما يسمى بالحمّامات ويرى البعض أنها أطلال القصر الملكي.
وفي الوادي المعروف بوادي التركمانية مدفنان من نموذج مدافن مدينة الحجر (مدائن صالح). الأيسر منهما يسمى «قبر التركمان» وفيه كتابة مهمة عن عبادات الأنباط.
وإذا خرج الزائر من قلب مدينة البتراء، مخلفاً وراءه مدافن الجروف التي تحف بها، يشاهد الوديان المحيطة بها تضم عدداً آخر من المعالم منها: مسلتان ترتفع كل منهما نحو ستة أمتار، وقبر المحاربين وأسد وادي فرسة والمعبد المعروف باسم المذبح في قمة الجبل وهو منقور في الصخر. وهذا المعبد طريف بتفاصيله المتعلقة بالديانات العربية القديمة في رؤوس الجبال. أما أهم المعالم الأثرية خارج المدينة فهو المعبد الجنائزي المعروف باسم الدير ويصل الزائر إليه ماراً بوادي الدير، ثم يتسلق درجات ومنحدرات. وفي الطريق إلى الدير يمكن رؤية بعض الأنصاب المنحوتة في الصخور وبعض الرموز الدينية المختلفة، ثم ينحدر الزائر فيرى بناءً جميلاً ضخماً بأعمدة نبطية وكورنثية وأفاريز دورية، وهو مؤلف من طابقين، العلوي منهما مماثل تقريباً للطابق العلوي في مدفن الخزنة. ويظن أن هذا المدفن أعد لرابيل الثاني آخر ملوك الأنباط. أما تسميته باسم الدير فيرجِّح البعض أنه استخدم ديراً في العهد المسيحي ومن هنا جاء اسمه.
وفي رواية سترابون أن الجروف العالية هي أسوار البتراء. وفي الواقع أن المدينة لها في الجنوب والشمال أسوار هلنستية الطراز، كما أن نبعي المدينة الرئيسيين وهما عين موسى في الشرق وعين وادي الصياغ في الغرب، يقعان خارج الأسوار.
ولم تفقد البتراء أهميتها في عهد «الولاية العربية» التي أحدثت عام 106 ميلادي من قبل الامبراطور ترايانوس لتحل محل دولة الأنباط.
الكشف عن المواقع النبطية والتنقيب فيها
تعد الحجر أثرياً على الأقل، الموقع النبطي الثاني، بعد البتراء، من حيث الأهمية فيعود أمر التعريف فيها إلى الرحالة شارلز دوتي Ch.Daughty الذي زارها وهو يرافق قافلة الحجيج عام 1876، واستنسخ منها كتابات نبطية نشرها إرنست رينان في جامع الكتابات السامية. وفي عام 1907 قام الأبوان جوسان وسافنياك بدراسة علمية تامة تقريباً للموقع، واتضح أن كل المعالم الظاهرة، فيما عدا المعبد المعروف باسم «الديوان» في جبل أثلب، هي مدافن منقورة في الجروف ومصليات وأنصاب جدارية، وينحصر عهدها بين القرن الأول ق.م و75 ميلادي، وطرازها نبطي شرقي قليل التأثر بالتقاليد الهلنستية. وأما البلدة التي تعود هذه المقابر إليها والتي يظن أنها بين جبل أثلب وقصر البنت فكانت مبنية باللبن على أساس من الحجر. وإن النصوص النبطية التي كشفت في منطقة الحجر كثيرة، ومنها نصوص تأسيس المدافن والدعوات الدينية والكتابات التذكارية على الصخور.
وتقع واحة العلا إلى الجنوب من الحجر وفيها كتابات نبطية. وبعض النصوص كشفت في واحة الجوف (دُومة الجندل في المملكة العربية السعودية)، وقد قام بيتر بار بالتعاون مع دوائر الآثار السعودية بمسح لهذه المواقع في أواخر الستينات.
ومن المواقع النبطية رمّ شرقي العقبة وتنور غربي طريق البتراء - الكرك، وموقع عَبْدة (أفدات) في شبه جزيرة سيناء الذي هو مرحلة رئيسية على طريق البتراء - غزة. وعلى طريق الكرك - بصرى توجد مأدبا وكانت من أهم المراكز النبطية، وفي بصرى (في سورية) حي نبطي وقوس نبطية وبناء شهير لعله معبد نبطي.
ومن المواقع النبطية الأخرى «سيع» شرقي قنوات (في سورية) حيث المعبد الشهير لبعل شمين ومعبد آخر في السهل كشفت عنه بعثة فرنسية بإدارة جان ماري دنتزر في الثمانينات. وقد وجدت نصوص نبطية في الضمير شمال شرقي دمشق، وفي صيدا (في لبنان) وديلوس باليونان وفي إيطالية ومصر.