ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ذلك في وصف النبي صلى الله عليه وسلم . فقد جاء في حديث طويل في قصة سعد بن هشام بن عامر حين قدم المدينة وأتى عائشة رضي الله عنها يسألها عن بعض المسائل ، فقال : ( فَقُلتُ : يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ ! أَنبئِينِي عَن خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَت : أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ ؟ قُلتُ : بَلَى . قَالَت : فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ القُرآنَ . قَالَ : فَهَمَمْتُ أَن أَقُومَ وَلَا أَسأَلَ أَحَدًا عَن شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ ...الخ ) رواه مسلم وفي رواية أخرى : ( قُلتُ : يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ ! حَدِّثِينِي عَن خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ . قَالَت : يَا بُنَيَّ أَمَا تَقرَأُ القُرآنَ ؟ قَالَ اللَّهُ : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) خُلُقُ مُحَمَّدٍ القُرآنُ ) أخرجها أبو يعلى بإسناد صحيح . قال النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم" : " معناه : العمل به ، والوقوف عند حدوده ، والتأدب بآدابه ، والاعتبار بأمثاله وقصصه ، وتدبره ، وحسن تلاوته " انتهى . ومن حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا – خاصة في هذه الأيام التي يتعرض فيها شخصه الكريم لحملة الكذب والتشويه – ليعلم العالَم أن في شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم أطهر شخص وأعظم نفس وأكرم قلب . وللبداية سنبدأ بالحديث عن ما ورد من آيات في فضله وصفاته صلي الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام بعدما نزل الوحي عليه صار امتثال أوامره واجتناب نواهيه سجية له، وخلقاً ثابتاً من أخلاقه، هذا مع ما جبله الله عليه قبل ذلك من الخلق العظيم، والحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم والأمانة والصدق. وقد وصفه ربه سبحانه بأنه لعلى خلق عظيم ، وأكد ذلك الوصف مرتين في آية واحدة فأكده بإن ، وأكده باللام فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم: 4]. وأثنى عليه في آيات أُخر منها قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب: 21]. فبين سبحانه أنه عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة التي ينبغي للأمة أن تتأسى به في كل شيء قال تعالى : (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [الجمعة: 2]. والتزكية هي التطهير من أدناس الأعمال والأقوال والأخلاق والنيات، فجعل الله من صفات نبيه أنه يزكي من آمن به واتبعه، ولا يمكن أن تكون هذه التزكية بمجرد القول، بل لابد أن يكون المزكي صلى الله عليه وسلم مثالاً حياً رفيعاً في التزكية. وقال سبحانه: (فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) [آل عمران: 159]. فوصفه بخلق الرحمة ولين الجانب ، كما ونفى عنه ما يقابلهما من سوء الأخلاق فقال سبحانه: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) [التوبة: 9]. فوصفه سبحانه أنه (عزيز عليه ما عنتم) أي يشق عليه ضرركم وأذاكم، وأنه حريص عليكم أي على ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم وختم الآية بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم. وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق) [الأحزاب: 53]. فقد كان صلى الله عليه وسلم حيياً كريماً، حتى إنه إذا أراد أن يتفرغ لأهله في يوم زواجه، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يطلب من جلسائه الانصراف ولا ينصرف هو حياءً منهم، بل يبقى جالساً معهم إلى أن يكونوا هم المنصرفين فبين الله للمؤمنين ما يجب عليهم من أدب تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبان خلقاً عظيماً من أخلاقه، وهو: خلق الحياء حيث يستحي أن يجرح مشاعر جلسائه، ولو صدر منهم ما يؤذيه. وقال سبحانه: ( إذ تصعدوون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم ) [آل عمران: 153]. فألمح القرآن إلى شجاعته صلى الله عليه وسلم، وإلى ثباته في مواقف البأس الشديد، ففي معركة أحد عندما دارت الدائرة على المؤمنين ، وفزعوا واضطربوا وانهزموا متجهين إلى المرتفعات يصعدون ولا يلوون على أحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت لم يتزلزل ، ولم يثبت معه إلا نفر يسير وقال سبحانه: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) [الشعراء: 3]. وقال سبحانه: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) [فاطر: 8]. وقال سبحانه: (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون) [النمل: 70]. وقال سبحانه: (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) [النحل: 128]. ففي هذه الآيات بيان لمدى رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفقته بمن دعاهم إلى الهداية فأعرضوا عنها حتى أنه كاد يهلك من الحزن والأسى لأنهم لم يؤمنوا، وهذا يدل على ما يحمله هذا القلب العظيم من حب الخير للناس كافة، وصدق الله تعالى إذ قال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء: 107]. يتضح خلقه صلي الله عليه وسلم مع ربه في عبادته له إذا أن توحي الله وعبادته هو الغرض الذي خلق لأجله الخلق فقال تعالي : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (56) [ سورة الذاريات ] . أما عبادته صلي الله عليه وسلم لربه فتتضح في الآتي : عن المغيرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يقول : " إن كان النَّبيُّ (صلى الله عليِ وسلم) ليقوم أو ليُصلي حتى ترم قدماه – أو ساقاه- فيقال له ، فيقول : (( أفلا أكونُ عبداً شكوراً )) البخاري قلت: تأمل معي قليلاً في هذا الحديث، بل وفي هذه العبارة على وجه الخصوص، (( أفلا أكون عبداً شكوراً )) ففيها من المعاني العظيمة ما تدلنا ، وترشدنا إلى أمور كثيرة ، ومنها: 1. أدبه الجم مع الله - عَزَّ وجَلَّ -. 2. كثرة عبادته ، وتهجدهُ ، والانطراح بين يدي خالقه مع أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه . 3. وصفه نفسه بكونه عبداً شكوراً ، وذلك تأدباً منه تجاه خالقه ومولاه . وعن ابن مسعود- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: "صليتُ مع النَّبيِّ (صلى الله عليِ وسلم) ليلةً فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوءٍ قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النَّبيَّ (صلى الله عليِ وسلم) ". البخاري وما أحسن ما قاله ابن رواحة: وفينـا رسـولُ الله يتلو كتابه إذا انشقَ معروفٌ من الفجر ساطعُ أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا بــه موقنــاتٌ أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشـه إذا استثـقت بالمشركين المضاجع في جانب توبته واستغفاره : كان رسول الله (صلى الله عليِ وسلم) أعرف الخلق بربه - جل جلاله - ، متعبداً له بجميع أسمائه وصفاته, وسيرته (صلى الله عليِ وسلم) تترجم هذا، فقد كان (عليه الصلاة والسلام) يُظهر ذله وافتقاره في كل شأنه ، و يكثر من الاستغفار والتوبة – حدَّث عن ذلك بقوله ((والله إني لأستغفرُ الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) البخاري في جانب دُعائه وافتقاره إلى ربه: حتى أن أبا بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ((أشفق عليه يوم بدرٍ من كثرة ما بَكى وتضرع فأخذه بيده وقال له: حسبك يا رسول الله)) البخاري كان دُعاء النَّبيِّ (صلى الله عليِ وسلم) في ركوعِهِ : ((اللهم لك ركعت، وبك آمنت، لك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)) صحيح مسلم والمتأمل لأذكار النَّبيِّ (صلى الله عليِ وسلم) وأدعيته يرى عجباً في هذا الباب ؛ ففي سيد الاستغفار مثلاً أعظم معاني العبودية ، وتبرز أسمى معاني الانكسار والتذلل ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت... إلخ)) وتأمل أيضاً دعاء النَّبيِّ (صلى الله عليِ وسلم) إذا قام من الليل يتهجد ويُناجي ربه قال : ((اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات الأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد... إلخ)). في جانب الالتجاء إلى الله وخشيته وتأثره بكلامه: عن جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-,قال: غزونا مع رسول الله (صلى الله عليِ وسلم) غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله (صلى الله عليِ وسلم) في وادٍ كثير العضاة ((أي الشوك)) قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون وهو قائم على رأس فلم أشعر إلاّ والسيف صلتا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني: قال : ((قلت الله)) – فشام السيف- أي سقط من يده.. إلخ)) رواه مسلم وهذه الواقعة تبين لنا قوة إيمان النَّبيِّ (صلى الله عليِ وسلم) بالله -عَزَّ وجَلَّ- ، وتوحيده الخالص وهذا من الأدب مع الله، وثقته بنصره وتأييده ، وحمايته وعصمته من الناس ، وهذا هو الإيمان إذا خالط بشاشته القلب. عن عبد الله قال : قال لي رسولُ اللهِ (صلى الله عليِ وسلم) : ((اقرأ عليَّ القرآن)) قال : فقلتُ يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: (( إني أشتهي أن أسمعه من غيري)) فقرأت النساء حتى إذا بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا} (41) سورة النساء. فقال لي: حسبك – فنظرت إليه فإذ عيناه تذرفان ). رواه مسلم قال عليه السلام والصلاة عن الخدم : (هم إخوانُكم جعلهم اللهُ تحت أيديكم فأَطعِموهم مما تأكلون وأَلبِسوهم مما تلبسون ولا تُكلِّفوهم ما يغلبُهم فإن كلَّفتُموهم فأعِينوهم) [صحيح مسلم] . أمّا هو عليه أفضل الصلاة والسلام فقد عامل خدمه بأرقى معاملةٍ، وكأنّهم أفرادٌ من أهل بيته الكرام، فجعلهم يشعرون ببشريتهم وبمكانتهم بعد أن عانوا الكثير قبل الإسلام، فلا إنسانيّة كانت ولا أخلاق في معاملتهم، وكأنهم ليسوا من بني البشر، ومن أمثلة المعاملة الكريمة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع خدمه مكافأته لمن يخدمه والدعاء له، قال أنس -رضي الله عنه- قالتْ أمي : يا رسولَ اللهِ، خادِمُك أنسٌ، ادعُ اللهَ له، قال : ( اللهم أكثِرْ مالَه، وولدَه، وبارِكْ له فيما أعطَيتَه ) [صحيح البخاري] رفقه بهم فقد كان يحنو عليهم ولا يقسو، ولا يضربهم ولا يعنّفهم ولا يشتمهم. حلمه، فيوّجه من أخطأ منهم ولا يعاقبه.شفاعته لمن استشفعه منهم. رحمته بمن يمرض منهم وزيارته له في بيته. قبوله لعملهم مهما كان و العفو والصفح عنهم والوعظ لمن يضرب خادمه وتحذيره من معاقبة الله عز وجل مساعدته لهم في عملهم غير مكلف لهم ما لا يطيقون. معلمهم دينهم، ومبيّن لهم حقوقهم ومكانتهم في الإسلام. محبة أبنائه كان النّبي عليه الصّلاة والسّلام يحبّ أولاده ومن بينهم السّيدة فاطمة رضي الله عنها حيث كان إذا دخلت عليه قام من مجلسه وأمسك بيدها وقبّلها ثمّ أجلسها في مجلسه، وهي تفعل كذلك معه إذا قدم عليها . مساعدة زوجاته لم يتكبّر النّبي عليه الصّلاة والسّلام بالرّغم من رجولته الكاملة عن أن يساعد زوجاته في مهنة البيت، فقد جاء في الحديث الشريف: (سألتُ عائشةَ ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصنعُ في بيتِه ؟ قالت: كان يكونُ في مهنةِ أهلِه تعني خدمةَ أهلِه فإذا حضرتِ الصلاةُ خرجَ إلى الصلاةِ. )، وفي حديث آخر تفصّل ما كان يفعل رسول الله حيث تقول أنّه كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، الاستماع لمشورة أهل بيته في صلح الحديبيّة استمع النبي عليه الصلاة والسلام إلى مشورة زوجته أم سلمة حينما أشارت عليه أن يحلق رأسه ويذبح هديه، ويتحلل من إحرامه حتى يراه المسلمون فيفعلون مثله حيث أصابهم الهمّ والغمّ يومئذٍ ما جعلهم يترددون في التحلّل من إحرامهم بسبب رغبتهم في دخول البيت الحرام الذي صدّهم المشركون عنه. التماس العذر لأزواجه روي أنّ زينب بنت جحش أمّ المؤمنين رضي الله عنها أهدت للنّبي عليه الصّلاة والسّلام طبقاً من طعام وهو في بيت السّيدة عائشة رضي الله عنها، وحينما رأت عائشة ذلك ضربت بيدها الطّبق فتكسّر نصفين وتناثر الطّعام في غرفتها، فلم يزد النّبي عليه الصّلاة والسّلام على أن يتبسمّ قائلاً: (غارت أمكم)[صحيح البخاري]. ممازحة أزواجه كان من عادة النبي صلّى الله عليه وسلم مشاركة زوجاته أحلى لحظات حياتهنّ، فقد كان النّبي عليه الصّلاة والسّلام يمازح أزواجه، كما كان يزرع البسمة في وجوههنّ حينما كان يسمح للسّيدة عائشة بمشاهدة الحبشة وهم يرقصون بالحراب في المسجد، كما كان يسابق عائشة ويتنافس معها. الرحمة بالأطفال من أهل بيته كان النّبي رحيماً مع الصّغار من أهل بيته، فقد كان يسعد برؤية الحسن والحسين حفيديه ويحتضنهم ويقبّلهم حتّى وهو يلقي خطبته على المنبر، فقد ورد في الحديث: (بينا رسولُ اللَّهِ على المنبَرِ يخطبُ إذ أقبلَ الحسنُ، والحسينُ عليهِما قميصانِ أحمرانِ يمشيانِ ويعثُرانِ، فنزلَ وحملَهما، فقال: صدقَ اللَّه: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ رأيتُ هذينِ يمشيانِ ويعثرانِ في قميصيْهما فلم أصبر حتَّى نزلتُ فحملتُهما) [صحيح البخاري] يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله في "إحياء علوم الدين" : " بيان جملة من محاسن أخلاقه التي جمعها بعض العلماء والتقطها من الأخبار ، فقال : كان أحلم الناس ، وأشجع الناس ، وأعدل الناس ، وأعف الناس ، لم تمسَّ يده قط يد امرأة لا يملك رقها أو عصمة نكاحها أو تكون ذات محرم منه ، وكان أسخى الناس ، لا يبيت عنده دينار ولا درهم ، وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفَجَأَهُ الليلُ لم يأو إلى منزله حتى يتبرَّأَ منه إلى من يحتاج إليه ، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير ، ويضع سائر ذلك في سبيل الله ، لا يُسأَلُ شيئا إلا أعطاه ، ثم يعود على قوت عامه فيؤثِرُ منه حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء ، وكان يخصف النعل ، ويرقع الثوب ، ويخدم في مهنة أهله ، ويقطع اللحم معهن ، وكان أشد الناس حياء ، لا يثبت بصره في وجه أحد ، ويجيب دعوة العبد والحر ، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ويكافئ عليها ، ولا يأكل الصدقة ، ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين ، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه ، وَجَدَ مِن فُضَلاء أصحابه وخيارهم قتيلا بين اليهود فلم يَحِفْ عليهم ولا زاد على مُرِّ الحق ، بل وداه بمائة ناقة وإنَّ بأصحابه لحاجة إلى بعير واحد يتقوون به ، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع ، ولا يتورع عن مطعم حلال ، لا يأكل متكئا ولا على خِوان ، لم يشبع من خبزٍ ثلاثةَ أيام متوالية حتى لقي الله تعالى ، إيثارا على نفسه لا فقرا ولا بخلا ، يجيب الوليمة ، وأسكنهم في غير كبر ، وأبلغهم من غير تطويل ، وأحسنهم بِشْرًا ، لا يهوله شيء من أمور الدنيا، ويلبس ما وجد ، يردف خلفه عبده أو غيره ، يركب ما أمكنه ، مرة فرسا ، ومرة بعيرا ، ومرة بغلة ، ومرة حمارا ، ومرة يمشي حافيا بلا رداء ولا عمامة ولا قلنسوة ، يعود المرضى في أقصى المدينة ، يحب الطيب ، ويكرة الرائحة الرديئة ، يجالس الفقراء ، ويؤاكل المساكين ، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم ، لا يجفو على أحد ، يقبل معذرة من اعتذر إليه ، يمزح ولا يقول إلا حقا ، يضحك من غير قهقهة ، يرى اللعب المباح فلا ينكره ، يسابق أهله ، وترفع الأصوات عليه فيصبر ، وكان له عبيد وإماء لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس ، ولا يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى أو فيما لا بد منه من صلاح نفسه ، ولا يهاب ملكا لملكه ، يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء مستويا . ومما رواه أبو البختري قال : ما شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من المؤمنين وكان إذا سئل أن يدعو على أحد ، مسلم أو كافر ، عدل عن الدعاء عليه إلى الدعاء له ، وما ضرب بيده أحدا قط ، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم ، وقد وصفه الله تعالى في التوراة قبل أن يبعثه ، فقال : محمد رسول الله ، عبدي المختار ، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، وكان من خلقة أن يبدأ من لقيه بالسلام ، ومن قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف ، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر ، ولم يكن يُعرَف مجلسه من مجلس أصحابه ، قال الله تعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) آل عمران/159 قد جمع الله له السيرة الفاضلة والسياسة التامة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، نشأ في بلاد الجهل والصحارى في فقره وفي رعاية الغنم ، يتيما لا أب له ولا أم ، فعلمه الله تعالى جميع محاسن الأخلاق ، والطرق الحميدة وأخبار الأولين والآخرين ، وما فيه النجاة والفوز في الآخرة والغبطة والخلاص في الدنيا ، ولزوم الواجب وترك الفضول ، ولا يحسبن أحد أن ما سبق من قبيل الكلام الإنشائي الخطابي ، وفي ختام هذا الموضوع نقول: هذا غيضٌ من فيض,فمن ذا الذي يُحيط بجوانب عبادته ومظاهر أدبه وخُلُقِهِ مع ربِّهِ، ومحبته له،وأما دُعاؤه (صلى الله عليِ وسلم) ،وإنابته وذكره وخشيته.. إلخ. الموضوع قدم لكم برعاية موقع وفريق NEW AGE |